تاريخ الصحافة المحلية والمهجرية

تاريخ الصحافة اللبنانية المحلية والمهجرية (القسم السابع)

شكري أنيس فاخوري
كاتب وروائي لبناني كتب نصوص عديد المسلسلات اللبنانية.ولد شكري أنيس فاخوري ‏15 فبراير عام 1953 في دمشق، حيث كان والده يعمل، قبل أن ينتقل إلى الأشرفيّة. أمّا جذور العائلة فتعود إلى الميناء في شمال لبنان. في مدرسة الحكمة القريبة من البيت، تلقّى علومه، لكنّ والده آثر نقله إلى مدرسة تعلّم الإنكليزية لكي يجاريه. وسجّله في مدرسة «النهضة»، ثم في «سي. تي. آي»، قبل أن يدخل الجامعة اللبنانية ويتخصّص في الأدب العربي ويتخرّج عام 1975. دخل عالم الدراما من خلال «تلفزيون لبنان»، وقدم نصّه «اللوحة الأخيرة» عام 1987 ونفذه عام 1988، فيلماً تلفزيونياً. ثم أعد مسلسل «مذنبون ولكن»، و«ربيع الحب»، وفيلماً تلفزيونياً عنوانه «الثلج الدافئ»، قبل أن يضرب ضربته مع «العاصفة تهبّ مرتين». بين عام 1994 وبداية 1997.
فارس خليل سعد
صحافي خاض المجال السياسي في سن مبكّرة وتولى العديد من المسؤوليات، نشاطه السياسي ارتبط دائماً بالإنتماء الوطني، وهاجسه المطلق تجلى في مسيرة حياته السياسية والمهنية، وأنتُخب رئيسا للحزب السوري القومي الإجتماعي في العام 2019.
كما ارتبط اسمه ارتباطاً وثيقاً بالصناعة الوطنية حيث تبنى القضية الصناعية من خلال موقعه الصحافي ومن ثم الإعلامي والإعلاني، وتحولت قضية وطنية مركزية أعطت بعداً وطنيا للعمل الصحافي والإعلامي.
وكان أول من أصدر وثيقة تتضمن معلومات مفصلة عن الصناعة اللبنانية وعن القطاعات المتكاملة معها، حيث لجأ إلى عملية مسح ميداني شامل للصناعة من الناقورة جنوباً إلى النهر الكبير شمالاً، بالتعاون مع كافة الوزارات المعنية والهيئات الإقتصادية والرسمية في لبنان.
أنشأ في العام 1982 وكالة أنباء إقتصادية بإسم “الوكالة العامة للأنباء” الى جانب أنطوان بشارة رئيس الإتحاد العمالي العام في حينه، والصحافي ابراهيم عواضة، عدنان الحاج وعلي يوسف. وفي العام 1992 أصدر مجلة “الصناعة والإقتصاد”، وهي مجلة إقتصادية تسلط الضوء على القطاع الصناعي اللبناني.
ويتولى سعد رئاسة مجموعة الصناعة والإقتصاد التي تضم مجموعة من النشاطات الإعلامية، الإعلانية والتسويقية، بالإضافة إلى تنظيم وإقامة المعارض الصناعية في لبنان والعالم.
رؤوف أبو زكي
رؤوف أبو زكي اسم لمع في عالم الاقتصاد والصحافة الاقتصادية وتألّق في مجال المؤتمرات ونشرها في العالم العربي عبر مجموعته المتخصصة “العربية للصحافة والنشر” المؤسسة الأولى لتنظيم المؤتمرات في الشرق الأوسط والعالم العربي وهو الرئيس التنفيذي لمجموعة الإقتصاد والأعمال.
لم يكن لدى أبو زكي المال لكي ينجح ولكن كان لديه المهنة والطموح والشغف، حيث وظفهم في المكان المناسب، وبوضوح أفكاره ونضوج رغباته استطاع أن يثّبت أقدامه على سلم النجاح ليصعد درجة تلو الأخرى بكل ثقة وحماس وبدون أي مساعدة حقق أحلامه واستطاع أن يجسدها على أرض الواقع.
منذ صغره كان يطمح لأن يعمل بالاعلام ويشعر أنه يمتلك الحس الصحافي، وفي بداياته لم يكن في عالم الصحافة تخصص اقتصادي أو صحافيين اقتصاديين، حيث بدأ يعمل في وكالة أنباء اخبارية يوم كانت وكالات الأنباء قليلة والأخبار الاقتصادية محدودة تُكتب بخط اليد وبتفوقه الكبير واندفاعه للمهنة، أتيح له أن يعمل في جريدة “النهار” ويعتبر أن عمله فيها كان فرصة ذهبية لأنه استطاع من هذا الموقع تكوين شبكة واسعة من العلاقات.
صحيح ان ابو زكي لم يدرس الصحافة، وخصوصاً أنه في تلك الفترة لم يكن هناك كلية اعلام ولكن المهنة كانت بالنسبة له شغف وموهبة وحس صحفي. وهو يُعتبر اليوم من مؤسسي الاعلام الاقتصادي بلبنان في الستينات، حيث لم يكن في تلك الفترة أقسام اقتصادية في الصحف والمجلات.
في مطلع السبيعينات أنشأ وكالة أنباء متخصصة بالاقتصاد أسمها “اورينت برس” وعلى أثر انشاء هذه الوكالة استحدثت كل الصحف اللبنانية هيكليتها وخصصت أقسام أقتصادية، حيث أن الوكالة أصبحت تزود كل المؤسسات الاعلامية بمعلومات عن النشاطات الاقتصادية والاجتماعية، واستطاعت فعلاً أن تسد فراغ كبير في تلك المرحلة من الناحية الاعلامية الاقتصادية.
لم يكن لدى أبو زكي رأس المال ليؤسس عمله الخاص فرصيده مهنته وثقة الناس به، الأمر الذي جعله يطرح فكرة انشاء شركة مساهمة متخصصة بالنشر والصحافة وبعمله ومثابرته استطاع افتتاح هذه الشركة في العام 1978″العربية للصحافة والنشر” التي تعتبر الأولى عربياً في مجال تنظيم المؤتمرات ولها 10 مكاتب في الدول العربية، حيث بدأت بـ 15 مساهم وهي اليوم تضم مساهمين من كل الدول وفيها ما يزيد عن 40 مساهم من كل الدول العربية.
عندما بدأ يفكر بعمل مستقل كان ينوي أن يؤسس صحيفة يومية ذات طابع اقتصادي ولكن الحرب في لبنان جعلته يتراجع عن هذه الفكرة، ويستبدلها بفكرة مجلة أسبوعية، وفي عام 1978 تم اصدار العدد صفر من المجلة ولكن في تلك الفترة تجددت الحرب وتراجع مرة أخرى عن فكرة المجلة الأسبوعية الى الشهرية وبالفعل استطاع اصدار مجلة “الاقتصاد والأعمال” وكان العدد الأول منها عام 1987.
وهذه المجلة هي أول مطبوعة اقتصادية ذات طابع عربي عام، مركزها القانوني لبنان ولكن في أوقات الحرب انتقلت الى باريس ومن ثم افتُتح مركز اقليمي لها في دبي، وعندما انتهت الحرب في لبنان عاد مركز المجلة الى بيروت في تلك الفترة لم يكن هناك صحف أو مجلات متخصصة بالاقتصاد على المستوى العربي.
أثناء تواجده في باريس لاحظ أبو زكي الطريقة التي تعمل بها مؤسسات الاعلام الغربية وكيف تنظم للمؤتمرات وأجرى مشروع مشترك مع ” الفايننشال تايمز” اسمه “نيوز ليتر” يصدر مرتين في الشهر و اسمه “الأعمال”، وكان يوزع للمشتركين فقط برسم اشتراك عالي، استمر المشروع لمدة 6 سنوات ومن ثم عاد المركز الى لبنان.
وجد أبو زكي أن المؤسسات الغربية الاعلامية التي لها طابع اقتصادي تهتم بكل شيء اسمه مؤتمرات، وهذا ما ألهمه أن يمارس ضمن شركته هذ النوع من النشاطات.
أول مؤتمر نظمته شركته في 1988 في تونس وكان حول كيفية العمل بين البنوك التقليدية والبنوك الاسلامية حيث استطاع أن يجمع 150 مؤسسة مالية ومصرفية أوروبية وعربية.
عدنان الحاج
من حارات الطريق الجديدة الشعبية، خرج فتاً يافعاً، كله عزيمة وإصرار للتغلب على أوضاع عائلته الإجتماعية المتواضعة.. مؤمناً أن تلك الأوضاع يجب أن تكون حافزاً له، ليشق طريقه نحو المستقبل، لقناعته أن المعاناة والحرمان، هما من يصنعان التفوق والإبداع، لأنهما لا يوفران مقومات الترفيه والترف، لمن هو في عمره، بل النجاح متى تحقق، سيتبعه الترفيه والترف…
لأن لعبة كرة القدم هي لعبة الفقراء، فقد إستهوته منذ نعومة أطافره، لأن ليس بمقدوره أن يهوى هوايات غير ممكنة، فانخرط باكراً في نادي الانصار الرياضي لاعباً مبتدئاً في كرة القدم، التي أخلص لها، تماماً كما أخلص لدراسته، مما مكنه من التدرج إلى تمكن من حجز موقع أساسي في الفريق الأول، ثم قائداً له، بالتزامن مع إختياره لاعباً دائماً في المنتخب الوطني، في زمن كانت الأندية تعج بالنجوم…
ما كان يلفت أنظار الجميع، أن الكابتن عدنان الحاج، كان يحضر إلى الملعب البلدي قبل عدة ساعات من موعد التدريب، فيجلس وحيداً على المدرج، ليراجع مواده الدراسية عندما إلتحق بالجامعة، ربما لأن أجواء منزلهم العائلي المتواضع لم تكن تتوفر فيه الظروف الملائمة للدراسة.
وعند بدء التدريب، يتحول إلى لاعب مثالي في الإنتظام والإلتزام وتنفيذ توجيهات مدربه وأستاذه وقدوته الكابتن المرحوم عدنان الشرقي، في زمن كان فيه الولاء والإنتماء للنادي، مسألة قيمية وأخلاقية.. وهذه المثالية كانت تترجم في المباريات تفان وإخلاص، الأمر الذي دفع بالكابتن عدنان الشرقي ليمنحه شارة قائد الفريق، تقديراً لجهوده في الملعب، وتشجيعاً له لاكمال مسيرته التعليمية في الجامعة.
كل ذلك، راكم عند عدنان الحاج وفاءه لناديه ولمدربه، وكان ينتظر الفرصة المؤاتية ليعبر عن تقديره وإمتنانه للنادي، إلى أن حصل على منحة لاكمال دراسته الجامعية خارج لبنان، بكل ما يمكن أن توفر له هذه الفرصة من مقومات نجاح للمستقبل، الا أنه رفضها، لأنه كان على قناعة في حينه أن النادي بحاجة إلى جهوده، فاختار النادي على المنحة التي كان احوج ما كان بحاجة لها.
عندما دخل مجال الصحافة الإقتصادية في صحيفة “السفير”، سار على نفس الدرب الذي سلكه خلال مسيرته الكروية، كان طموحاً ومتطلعاً للنجاح، فاجتهد وثابر وتعلم ممن سبقوه في المهنة، وعمل على تطوير نفسه، ونسج علاقات واسعة مع مختلف الهيئات الإقتصادية وأركانها، حيث يعقد معهم اللقاءات ويحصل منهم على الدراسات والأبحاث لينمي معرفته بالشؤون الإقتصادية، إلى أن تمكن بعزيمته وجهده أن يكون واحداً من أبرز المحللين والخبراء الإقتصاديين، بجدارة وكفاءة مشهودتين.
ولأنه كان حريص على إستقلاليته وتجرده من أي تبعية سياسية، رفض كل العروض المغرية التي تلقاها من قادة سياسيين كثر، أن يتولى أي منصب رسمي كمستشار إقتصادي لأي منهم، رغم أن جميعهم كانوا يستشيرون ويأخذون بآرائه.
ولأن عدنان الحاج مشهود له الوفاء والإخلاص، فأنه واحد من قلة قليلة ممن عملوا في جريدة :السفير”، لم يغادرها، ولم تغريه كل العروض، لأنه كان يفتخر ويعتز بأنها كانت المنصة التي إنطلق منها مهنيا، ولن ينهي حياته المهنية إلا فيها…
وبالفعل عندما أقفلت السفير، كانت محطة مفصلية في حياته بالمعنى السلبي، دخل في حالة إحباط نفسي، لم يتمكن من التغلب على شعور الهجرة، فصار أسير غرفته المنزلية، إلى أن تغلب عليه المرض، حتى شاء المولى عز وجل أن يسترد أمانته…
الأدب والصحافة في بلاد الإغتراب وتأثيرهما في المجتمعات المتقابلة
كان للبيئة المهجرية في الأميركيتين فضل كبير على أدبنا المهجري، إذ وفرت أجواء الحرية في الأميركيتين مناخات ملائمة لأدبائنا الكبار، الذين هاجروا في مطلع القرن العشرين، ليؤكدوا على تفوقهم في عالم اللغة العربية ونشر تراثها، في مجتمع غريب عن هذه اللغة وأصولها،التي كانت تعتبر لغة خاصة بالعالم العربي، لا يمكن أن تتغرب، وتجد لها التربة الخصبة في أرض بعيدة، وفي ثقافة مغايرة لها. لقد تبلورت النهضة الأدبية العربية في مغتربات شمال القارة وجنوبها، من خلال تجمع الأدباء والمثقفين في جمعيات فكرية أدبية، كان في طليعتها “الرابطة القلمية” في الولايات المتحدة الأميركية، و”العصبة الأندلسية” في البرازيل.
أ – الرابطة القلمية
أسسها في العام 1920 مجموعة من الأدباء الكبار وهم : رشيد أيوب، وليم كاتسنليس، عبد المسيح حداد، وديع باحوط، والياس عطالله. وكان مقرها الرئيسي في العاصمة الأميركية نيويورك، ونصت غايتها على “تجديد الصلة بين الأدب والحياة”، وإقامة مقاييس جديدة في الأدب، وتوسيع آفاق إنتاجه في المقال والقصة والملحمة والنقد. ترأس جبران خليل جبران هذه الرابطة، ورسم شعارها، ونقش تحته هذه العبارة: “لله كنوز تحت العرش مفاتيحها ألسنة الشعراء”.
حقّق أعضاء الرابطة، في سنواتها الأولى، نجاحا باهرا، على صعيد كثافة الإنتاج الأدبي الذي صدر عنهم ونشروه على صفحات الصحف التي أصدروها، ولاسيما في صحيفتي “الفنون” لصاحبها نسيب عريضة، و”السائح” لمؤسّسها عبد المسيح حدّاد. ولم ينحصر إنتاج هذه الرابطة في البيئة الحاضنة لها بل امتدّ تأثيرها إلى مختلف المهاجر الأميركية، ومن ثمّ إلى دول العالم العربي. وانتقل أدب جبران خليل جبران إلى العالمية من خلال كتابه “النبي” الذي ترجم إلى عدّة لغات. كما وضع جبران بعد ذلك كتابه “العواصف” باللغة العربية، إلى جانب ثمانية كتب بالإنكليزية. إلا أياً من أدباء الرابطة لم ينشر إنتاجه العربي باللغة الإنكليزية، باستثناء أمين الريحاني الذي كتب “أنشودة المتصوفين” عام 1921 بالإنكليزية. أما مخائيل نعيمه، الذي تردّد اسمه على لائحة جائزة نوبل، فقد نشر شعره في جريدة النيويورك تايمز، إلا أنه لم ينشر الترجمة الإنكليزية لرائعته “همس الجفون” إلا في العام 1943.
انفرط عقد “الرابطة القلمية”، بعد عشر سنوات على تأسيسها، وتفرّق أدباؤها، وذلك بعد وفاة عميدها ورائدها الفيلسوف جبران خليل جبران في العام 1931، وبعد أن تركت وراءها تراثا أدبيا غنيا في اللغة العربية، لم تقتصر مفاعيله على المهاجر فقط، بل امتدت إلى الوطن حيث الإنتداب الفرنسي والإنكليزي قد نكّل بالمفكرين وهجرهم، وهمّش اللغة العربية ودفعها إلى المرتبة الثانية بعد لغته الأجنبية، التي جعلها اللغة الرسمية الأولى، خصوصا في الدوائر الرسمية والمؤسسات التربوية والمعاملات الخارجية.
ب – العصبة الأندلسية
بعد عامين على غياب الرابطة القلمية في الشمال الأميركي، ظهرت في جنوبها جمعية أدبية جديدة، أطلق عليها مؤسسوها، إسم “العصبة الأندلسية”، تيمناً بالعصر العربي الزاهر الذي عرفه الأندلس في مملكة غرناطة الإسبانية بين عامي 1236و 1492. أمّا مؤسسوا هذه العصبة فكانوا خمسة عشرة من كبار الأدباء العرب الذين هاجروا قسرا إلى البرازيل، لأنهم رفضوا الخضوع للإنتداب والتنازل عن أفكارهم التحررية، والأدباء هم: ميشال معلوف، نظير زيتون، حسني غراب، شكرالله الجرّ، نصر سمعان، حبيب مسعود، إسكندر كرباج، داوود شكور، يوسف غانم، أنطون سعد، يوسف البعيني، عقل الجرّ، رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي)، جورج حسون المعلوف، وشفيق المعلوف.
إتخذت هذه العصبة ساو باولو مقراً لها، وحدّدت قانونها بالمبادئ العشر التالية:
جمع أدباء العربية في العربية وتآخيهم،
تعزيز الأدب العربي في المهجر،
تأسيس منتدى أدبي صرف،
إصدار مجلة تنطق بلسان العصبة الأندلسية،
إيجاد الصلات القلمية وتوثيق رابطة الولاء بين العصبة وسائر أندية اللغة العربية،
التذرع بكل وسائل الأدب والعلم إلى رفع مستوى العقلية العربية،
مكافحة التعصب وتمحيص العقائد،
نقد التقاليد التي تنافي روح العصر وتؤدي إلى الجمود الفكري،
إبعاد اية صبغة سياسية أو دينية أو إقليمية عن هذه المؤسسة الأدبية،
إطلاع العالم العربي عن طريق المجلة على بدائع الفكرالعربي، ولاسيما البرازيلي منه.
إستعملت العصبة في البداية مجلة “الأندلس الجديدة”، التي كان يصدرها ميشال كرم منبرا لنشر أفكار أعضائها وأفكارهم، وفي العام 1935، أصدرت العصبة مجلة شهرية خاصة بها، أسمتها “العصبة”، تولى حبيب مسعود رئاسة تحريرها، وقد جمعت أعدادها في 13 مجلدا ضخما. وكانت هذه المجلة منبرا حرا، ومجالا واسعا لعرض مختلف الأفكار والأراء على تنوعها واختلافاتها ونزعاتها المختلفة. والملاحظ في مواد هذه المجلة التنوّع الفكري، فقد كان لكل عضو من أعضائها أفكاره وأراءه وميوله ومذهبه الفكري، وهذا ما كان غائبا عن “الرابطة القلمية” المتماسكة في عقيدتها وتوجهاتها الفكرية.
لقد تركت “العصبة الأندلسية” تراثا فكريا أغنى اللغة العربية، فإلى جانب مجلدات مجلة “العصبة”، أصدرت هذه العصبة مجموعة من المؤلفات والدواوين الشعرية لأدباء العرب في المهجر البرازيلي، من بينها:
ديوان “عبقر” لشفيق المعلوف، قصيدة “الروافد” و “زنابق الفجر” لشكرالله الجر، و “نداء المجاذيف” لميشال كرم، و “أحلام الراعي” للياس فرحات، و”ديوان القروي” لرشيد سليم الخوري، و”أقاصيص” لجورج حسون المعلوف. كما قامت العصبة بتكريم عدد من أدباء العرب اللامعين، ومن بينهم الحفلة الكبرى التي أقيمت تكريما للذكرى الألفية لـ المتنبي عام 1965.
لقد ولّد الأدباء المهجريون في تلك الحقبة التاريخية، أدبا متفوقا، أغنى اللغة العربية، وإن اختلف آراء النقاد في الموقف منه، فإنّ أدباء المهجر استمدوا إلهامهم بالدرجة الأولى من تأملاتهم في الحياة، ومن حسهم وتفكيرهم ومعاناتهم، والتصاقهم فكرا وعاطفة بأوطانهم الأصلية، بعيدون بالروح عن المجتمع الأميركي وثقافته، لا يهتمون بآدابه وصحافته وأخباره، مثل إهتمامهم بأدب أوطانهم وصحافتها وأخبارها. لقد كانت تلك الجمعيات الأدبية واحات وطنية في صحراء الغربة القاتلة، تحافظ على لغة الضاد، وآدابها، وسط مجتمعات وثقافات ولغات حيّة تجرف بقوتها المادية والمعنوية كلّ جماعة طارئة وثقافة مستوردة ولغة غريبة.
لم تكن الجمعيات الأدبية الوسيلة الوحيدة التي استخدمها الأدباء المهاجرون لبث نشاطهم الفكري في عالم الإغتراب، إذ عمدوا إلى إنشاء الصحف والمجلات باللغة العربية، ويصح القول إنّ القرن التاسع عشر كان قرن الصحافة في البرازيل، فانتشرت عشرات الصحف في الولايات الرئيسية في ريو دي جانيرو، وسان باولو، وبورتواليغري، وبيللو اورزنتي، وكمبيناس وسانتوس، وكمبوس، وسلطو اورنتال، ونيتروي، واوليفيرا وبوا.
منصور عازار حالة مضيئة في عالم الاغتراب والنشر والاقتصاد.
يحكى الكثير عن منصور عازار، وهو ان اصدر مؤلفات تعتمد كمراجع، انما يصح ان يُكتب عنه الكثير، من كتابه السيرة، اخترنا المقاطع التالية:
مجلة المنبر
رأيت ان اؤسس مجلة شهرية راقية، جميلة أرعاها كمشرف عام ومموّل وأضع الخطة العامة لسياستها ونهجها، وتقوم على إدارتها وتنفيذها وتحريرها، كوكبة من نخبة أقلامنا في الوطن، الذين كانت أسماؤهم قد انتشرت وأصبح لهم حضور لافت في أوساط المغتربين وبين المقيمين أيضاَ.
وبعد أخذ وردّ في التسمية، استقرّ الرأي على تسمية “المنبر”، لتكون “المنبر” منبرنا الاغترابي الذي ينقل موقفنا ورأينا ويعرّف المغتربين الى هموم الوطن ومشاكله ويشركهم فيها، كما يشرك الوطن في مشاكل المغتربين وتحديات الاغتراب ويطلع شعبنا المقيم والمغترب على واقع هذا الاغتراب، وتكون منبرنا للحوار بين آراء عدة متباينة، لكنها البحث عن الأفضل واقتراح حلول للعوائق التي تعيق تقدمنا ووحدتنا ونهضتنا. فكانت “المنبر” إطلالتنا الإعلامية والفكرية على الوطن وعلى المغتربات، إطلالة لافتة وراقية ومرموقة، واستحقّت تقدير كل من اطلع عليها واشترك فيها وساهم بها.
وربّ ضارة نافعة. كانت الحرب قد ذرّت قرنها في ربوع لبنان، فرأى الشباب أنهم لو بقوا في الوطن لتعرّضوا لمخاطر جمة تعيق تخصصهم وعملهم، بينما لو سافروا الى خارج لبنان لربما أكملوا تخصصهم او توفرت فرص عمل مرموقة لهم، وفضلاً عن هذا ابتعدوا عن خطر الحرب الذي يهدّد سلامتهم الشخصية.
هكذا تجمّعت في باريس نخبة من أقلامنا: جان داية، نصري الصايغ، سركيس أبو زيد، حسن حمادة وغيرهم، اعتمدت على هذه النواة للانطلاق في مجلس التحرير لمجلة “المنبر”. وتولى الجانب الفني من “المنبر” بشار العيسى، وهو مخرج بارع وفنان من سورية، وباشرنا العمل في باريس العام 1984.
بعد توفر فريق العمل التحريري والفني توليت الاشراف العام على “المنبر”، بينما تولت ابنتي هادية الاشراف الإداري بإدارة مكتب المجلة في باريس وعبره تتابع المهمات والكتّاب والتقارير والملفات وتجمع المواد التحريرية لكل عدد وتشرف على الإخراج، بحيث غدت صمام ديمومة “المنبر” وعصبها الأساس.
هكذا كان لا بد من تسجيل “المنبر” في باريس ليغدو عملها حسب القوانين الناظمة للعمل الصحافي في فرنسا، كما سجلّتها في غانا ونيجيريا ولبنان ولندن في بريطانيا.
لم تكن “المنبر” كباقي المجلات: حافزها تسويق المواقف والأشخاص والسياسات وهدفها الربح وجمع الثروات ومراكمة المكاسب. كانت قواعد عملها غريبة عن صحافتنا كلها، عن الصحافة السائدة آنذاك والممتدة الى الآن. كانت مجلة لا تبغي ربحاً مادياً تعمل لاجل الوطن وحده والأمة وحدها. وتعالج الاحداث والقضايا والمواقف بمعايير قومية ووطنية سليمة. تحاول رتق ما مزّقه الطائفيون وما زالوا ممعنين في تخريبهم. استطاعت ان تقدم النموذج وصمدت سنوات طويلة، لكنها لم تستمر.
انتظمت “المنبر” مجلة شهرية، تصدر من باريس وتوزع في معظم دول الاغتراب وفي لبنان كذلك، حتى اكتمل عدد اصداراتها 100 عدد شهري. منها أعداد خاصة بكل بلد، يعرّف عنه ويتضمن مقابلة مع رئيس البلد وأهم صناعاته وزراعاته ومزاياه والانتشار الاغترابي فيه ومكوّناته السكانية.
استمرّت “المنبر” تصدر من باريس حتى العام 1994، حيث نقلت مكاتب إدارتها الى بيروت، شارع الحمراء بالتحديد في بناية السارولا، حيث كان عندي مكتب فيها، فعاودت الانطلاق.
في مرحلة بيروت عاونني في اصدار “المنبر” السيد مالك شلهوب، وهو اليوم احد أعمدة ذاكرة الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم، ومؤسس “متحف المغترب” في بلدته “دير عشاش” والسيد وليد بركات الذي انطلق في العمل الصحافي حينذاك مع “المنبر”، ومن ثم توسّع الى العمل السياسي حالياً.
بعد أعداد عدة أدرناها من بيروت، توقفت “المنبر” عن الصدور بعد ان حاولت ان تؤدي رسالتها الإعلامية ، وبعد ان تبلورت معطيات عدة أسهمت في خيار توقفها وانعدام الجدوى تقريباً من المتابعة في النمط نفسه.
في مرحلتها الأخيرة في بيروت كان يعاونني في إدارتها البيروتية الأمين سركيس أبو زيد.
رأيت منذ العام 1977 وصاعدا أنه يلزم تأسيس مركز دراسات علمية للإضاءة على مشاكلنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقومية عامة، بخاصة ما كانت تركته حرب السنتين المشؤومة في العامين 1975- 1976 من تداعيات ونتائج وما فجّرت من أسئلة ومعضلات كانت تتطلّب علاجاً جذرياً. فاتجهت الى تأسيس مكتب الدراسات العلمية الذي تنكّب مهمة نشر كتب ودراسات او إعادة نشر كتب ودراسات ذات فائدة لقضيتنا، واتخذت له مكتباً كنت أملكه في محلة الدورة في بيروت.
كان لمكتب الدراسات العلمية هيئة استشارية من أعلامها: الياس جرجي قنيزح، شوقي خيرالله.
بدأ المكتب بعقد ندوات فكرية وحوارات وطباعة كتب عدة، بخاصة لبعض الأصدقاء والمعارف، فطبع للأب بولس نعمان اطروحته عن المارونية، ولشوقي خير الله، ولجورج مصروعة كتابيه “ضحيتان”، “ابن زيكار”، وكتاب للدكتور ربيعة ابي فاضل وغيرهم كثيرون. وكنا نصدر كتباً توجيهية حسب الضرورة.
بعد التجربة القاسية في الأمانة العامة لـ”الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم” وما ولّدته من انقسامات ومحاكمات قررتُ العزوف عن غوغاء مسؤولياتها، ورأيت انه أولى بي استنهاض مكتب الدراسات من جديد.
استأنفت عقد الندوات والحوارات الفكرية والفلسفية والثقافية في مركز المكتب، في بيتي في قرية بيت الشعار، الطابق الأرضي، حيث جمعت الجزء المتبقي من أرشيف عملي ومكتبتي وسجلات دراسات ومجلدات مجلة “المنبر” وصالوناً يتسع لعشرات المدعوّين.
والطابق الأرضي من منزلي، فيه بنية متحف، مبنيّ على طريقة عقد الحجر القديم، أعدت ترتيبه بترميم فني لتبدو مسحته الاثرية الجميلة وروعة هندسته التراثية الجبلية التي ميّزت بلادنا عبر العصور.. وجهزته بإضاءة تحاكي هيكلية المتحف العتيق التي تبرز جَدل النور والعتمة وحركة الأضواء وظلالها.
فاق عدد الندوات والمناسبات والحوارات التي عقدناها في مكتب الدراسات مئة عمل، كلها تمّ تسجيلها وحفظها، وعازم على ان أصدرها في مجلدات خاصة لتبقى بين يدي الأجيال ولا تقبُرها ادراج مكتبة، إن أعطتني الحياة قوة. فغايتها ان تنتشر وتُقرأ وتُعرف وتُتداول وتكون موضوع حوار وسجال لا ينتهي، بخاصة ان من دُعي الى عقد تلك الحوارات والندوات هم أعلام الفكر والأدب والشعر والفلسفة والاقتصاد والسياسة خلال عقود في لبنان.
وما زال نشاط المكتب مستمراً، ليس بانتظام، لأنه يتأثر بظروف وأسباب كثيرة، أبرزها بارومتر صحتي وقدرتها على الصمود والتخطي في تسعينياتي الراهنة، لكنه لم يتوقف إلا ما ندر وأملي ألا يتوقف، وهذا ما يتحمّل مسؤوليته الشباب المساعدون في هيئة المكتب ان يكملوا برفع رايته الفكرية ورسالته التنويرية. على ان يكون المشرف عليها بعد غيابي الأمين سركيس أبو زيد الذي رافق نشاط مكتب الدراسات ولم يزل، وهذه وصيتي له.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »