تاريخ الصحافة المحلية والمهجرية

تاريخ الصحافة اللبنانية المحلية والمهجرية (القسم الأول)

صحـافـــة لـبـــنـــان فـــي الـــوطـن والإغـــتـراب

أحدث اكتشاف الحرف ومن ثمّ المطبعة، وما نتج عنهما، ولاسيما في عالم الصحافة، ثورة حقيقية في تاريخ الثقافة الإنسانية، وإلى شعبنا يعود الفضل في إنتاج هذه الثورة ، فالفينيقي قدموس هو من ابتكر حروف الهجاء في الألف الثاني ق. م. وعلى أصولها بنيت معظم اللغات .
وقد اصدرت الحكومة اللبنانية قانون رقم 215 تاريخ 2012-11-30 نصّ على وجوب إحياء “عيد الأبجدية La Journée de l’alphabet ” الواقع في 11 آذار من كل سنة ، في جميع المدارس والثانويات الرسمية والخاصة والمؤسسات الثقافية، إحياء هذا العيد وفاءً لتاريخ لبنان المضيء ودورِهِ في بناء حضارة الإنسان.
والقرار المشترك الصادر عن وزيرَي الثقافة والتربية والتعليم العالي رقم 2012/9 تاريخ 2012 – 01 – 27 والقاضي بتشكيل لجنة تنظيم عيد الأبجدية ومن أولى مهامها تنظيم الاحتفالات بيوم الأبجدية كونها أساس الكتابة والتدوين وأصلها حيث لم يكن ممكناً حفظ تاريخ البشرية وإبداعاتها من دون اختراع تلك الرموز التي سمّيت حروف الهجاء والتي من خلالها تمّ التواصل والتعبير بين البشر. وهي أشهر رموز الكتابة على الإطلاق، لأنها تقوم على تفكيك نبرات الصوت إلى أبسط مركّباتها. فكانت هي المنطلق للحضارة الإنسانية، إنها أعظم منحة أَنعَمَت بها الحضارة الكنعانية الفينيقية اللبنانية على البشريةِ جمعاء، وهي الأهمّ في مجموعة التقديمات اللبنانية للإنسانيةِ جمعاء”. وشهد لبنان دخول أول مطبعة إليه في العام 1585، وهي ” مطبعة دير مار انطونيوس قزحيا في وادي قاديشا”، ويعود لإبن حلب البطريرك الملكيّ أثناسيوس الدبّاس الفضل في إقامة أول مطبعة بالحروف العربية ، في حلب، عام (1706- 1711) ، وتلتها مطبعة “دير الشوير” المعروفة بـ “مطبعة دير مار يوحنا الخنشارة”التي أسسها الشماس عبدالله زاخر سنة 1733 ،وفيها طبع اول كتاب باللغة العربية، عنوانه : «ميزان الزمان» . وكانت بداية إنطلاقة الصحافة العربية في لبنان عام 1858، مع صدور أول صحيفة باسم “حديقة الأخبار”على يدّ خليل الخوري . وغدت بيروت مهد مدارس الحقوق وأمّ الشرائع ، عاصمة عالمية للكتاب والثقافة والإعلام العربي .
وكانت بيروت منصةَ الانطلاق للإنتاج الأَدبي والفني والفكري لمعظم الكتَّاب والرسامين والمفكِّرين العرب، ويُطبَع ملايين النُسَخ سنويًا من “القرآن الكريم” في بلدة “درعون” حريصا، على بُعد أَمتار من تمثال سيِّدة لبنان شفيعة اللبنانيين ومَن يقصِدها من الضيوف العرب.
بيروت هي المدرسة، والجامعة، والمشفى، ودار النشر، والمطبعة، وبلد السياحة في كل الفصول.وستبقى بيروت “ست الدنيا” ومنصةَ إنطلاق للإنتاج الأَدبي، الفني والفكري.
وبيروت أم الشرائع، “عاصمة للثقافة ” وثاني عاصمة عالمية للكتاب، واليوم هي عاصمةٌ للإعلام العربي.
وثيقة بيروت
تزامناً مع إعلان مدينة بيروت (عاصمة الإعلام العربي – 2023)، أطلق وزير الإعلام المهندس زياد مكاري “وثيقة بيروت”،في احتفال اقيم بتاريخ 23 أيار 2023 في القاعة الدائرية وأكد أنّه يريد ” للاحتفال أن يكون طاقة فرج وأمل وباباً لعودة المياه اللبنانية العربية إلى مجاريها الطبيعية”، لافتاً إلى أنّ “بيروت عاصمة الإعلام العربي مناسبة لتظهير عروبتنا وتطهيرها من شوائبها، ولذلك أُطلِق نداء الى كل أشقائنا العرب لتكون هذه السنة سنة الانفتاح العربي بين عواصمنا العربية ولنجعل شعارها ثقافة تجمعنا لا جهلا يفرقنا”.
وأضاف: “نريد إعلاماً هادفاً يُناصر القضايا العربية وينتصر لها، إعلاماً يسلّط الضوء على السلام لا على الحروب، إعلاماً ينتصر للانسان ؛ للنساء والأطفال والشباب، ونريد إعلاماً ينشد ثقافة الانفتاح ويغلق الباب على الانعزال”.
وتهدف “وثيقة بيروت” إلى تحديد الرؤية اللبنانية لوظيفة الإعلام ودوره وأغراضه، والتذكير بمسلّمات مهنية انطلاقاً من فعالية “بيروت عاصمة للاعلام العربي 2023″، وتأسيساً على مبدأ الإيمان بالحريات العامة.
ويُؤمل أن تكون هذه الوثيقة خريطة طريق محلية سقفها مبادئ وأخلاقيات العمل الصحافي والاعلامي التي منها ينبري كل قلم، ويصدح كل صوت، وتسطع كل صورة، ومنها نُذكّر بحقوق وواجبات الإعلام في وطن الاشعاع.
وتوخيّاً للمواءمة بين النظرية والتطبيق، ارتأى واضعو الوثيقة تسطير مبادئ عريضة كتوصية يمكن الاسترشاد بها في فضاء الإعلام الوطني، مرتكزين على شرعة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومنها تتفرع الحقوق كلها، سواء المتصلة بالأفراد أو بالمهن، واستتباعاً بالمقاربة الإعلامية المتوخّاة.
لا يفوّت المجتمعون أن القضايا الجوهرية، مهما بلغت أهميتها، تبقى قاصرة عن إدراك هدفها ما لم يرفع الإعلام لواءها وينطق بأحقيتها ويسارع الى تبنيها واستنقاذها من اليُتم.
وتعتبر الوثيقة الحاضرة أقرب إلى حجر الزاوية لإعادة تشكيل الإعلام وفق التطوّرات المجتمعية والثورة الرقميّة، دون المساس بالثوابت المرتكزة على المهنية وصوت الضمير ولغة العقل وانعكاس الواقع، وحرية الرأي قولاً وكتابة كما نص عليه الدستور اللبناني.
أبرز مبادئ وثيقة بيروت:
أولاً:
حرية التعبير:هي حريّة صانها الدستور اللبناني، وعزّزتها مناخات الحريّة والديموقراطية والانفتاح في لبنان منذ فجر استقلاله، نريدها دائمًا حريّة مسؤولة لا متفلّتة، جامعة لا مُفرّقة، حامية للمجتمع لا فتنوية، مساندة للفكر لا قامعة، ناصرة للحق لا صارخة بالباطل، موحّدة باسم الضمير والمهنية، لا شاهرة سيفاً ضد الآخر.
من هذه المنطلقات، نأمل مشاركة الأشقاء العرب من خلال “وثيقة بيروت”، هذه القيم لإنعاش عمقنا العربي، وتعزيز دور الاعلام المسؤول، لحفظ مجتمعاتنا وأمننا القومي، ونبذ كلّ خطاب فئنوي، عنصري، أو محرّض على العنف.
ثانياً:
التطوّر الرقمي:في عصر الإعلام التقليدي، تحوّل العالم إلى قرية صغيرة، ومع الثورة الرقمية والتطور الرقمي والذكاء الاصطناعي، تحوّل العالم إلى بيتٍ صغير، فما عاد شيء يُخفى، ولا أمر يُحجب، ولا خبر يغيب. ما كان خيالاً قبل عقود صار واقعًا، ما يُحتّم رفع منسوب المسؤولية للحاق بسرعة معلوماتية تفوق سرعة الصوت بأضعاف.
نُريد لـ”وثيقة بيروت” أن تؤسّس لمشروعٍ مهنيّ احترافيّ أخلاقي، يواكب هذه الثورة التي تخطّت كلّ الحواجز، وكسرت كلّ المحرّمات، فنفيدُ من الجسور التي شُيّدت في العالم الافتراضي، لنحمي عالمنا الواقعي، ونعزّز الحريّة والمسؤولية معًا. فنشجّع لغة التسامح والحوار، ونعزل لغة القدح والتهشيم ونبذ الرأي المُختلف.
ثالثاً :
حقوق الإعلاميين:حين نُطالب الإعلامي باحترام واجباته المهنية والأخلاقية، علينا أن نوفّر له حقوقَه في الحريّة والوصول الى المعلومات وحريّة التنقل ونقل المعلومة دون خوف، والضمان الصحي والراتب التقاعدي والأجر اللائق، والحماية الشخصية والقانونية، وحريّة التنقّل ونقل المعلومة دون خوف. كيف لصحافي أن يكرّس حياته باحثا عن الحق، وهو محروم من حقوقه؟ كيف له أن يناضل لنصرة الناس، وهو قد يعاني أكثر مما يعانيه مَن يوصل أصواتهم؟
المسؤولية في هذا المقام مثلثة الأضلع: نقابات تُحصّن وتدافع، تشريعات تحمي وتحاسب، ومؤسسات تعدل وتعطي الصحافي حقّه.
رابعاً:
مراعاة الخصوصيات:تحصيناً للعلاقات العربية الاعلامية، واحتراماً لخصوصيات الدول العربية الشقيقة والصديقة، وحرصاً على التمايزات والتنوع، نسعى للمساهمة في تقوية الجسور القائمة بين دولنا، وتشجيع لغة الحوار والتلاقي والتكامل، ونبذ لغة التحريض والكراهية والعنف.
خامساً:
تعزيز كليات الإعلام:تبدأ المهنية وشرعة الاعلام والحقوق والواجبات في جامعات وكليّات الاعلام، فهي التي تُؤسّس للفكر النظيف، والمهنيّة الحقيقية، والكلمة الصادقة، والمعالجة الأخلاقية. هذا يتطلّب تطوير هذه المؤسسات التعليميّة وتجهيزها وتعزيز قدراتها البشرية والتقنيّة، لتخريج إعلاميين يرفعون راية المهنة عالياً ،ويدافعون عن الحق ويواكبون العصر لغةً وتكنولوجيا ومضموناً جاذباً ومفيداً.
سادساً:
رفض التمييز ومكافحة الأخبار الكاذبة:صوناً لمبادئ المساواة وضنّا بكرامة الإنسان، يجد الإعلام نفسه في حرب دائمة على كل أشكال التمييز العنصري والتعصّب، وفي دفاع مستميت عن حق الشعب في تقرير مصيره، وحماية حرية الأفراد وكرامتهم، وذلك من خلال إتاحة فرصة التعبير وحق النشر للجميع، من دون قيود مجتمعية أو عرقية أو طائفية، طبقاً لما تمليه الموضوعية الإعلامية.
سابعا:
الإعلام ونُصرة القضايا العربية:لأسباب كثيرة، تراجعت صورة العرب في الغرب والشرق، وبات بعضُ العرب يخجلون حتّى بلغتهم. هذه مسؤوليتنا جميعًا حتّى ولو كانت خلف عمليات التشوية مؤامرات كثيرة حُبكت في الغرف السوداء، ولا شكّ في انّ الاعلام يُشكل الوسيلة الفُضلى في عصرنا، لتحسين الصورة، وإظهار الحقيقة، وردّ الباطل، وحماية لغتنا الأم، وإعادة الاعتبار لتاريخنا وحاضرنا، ومواكبة العصر، وهذا يتطلب نشاطات عربية جامعة، تهدف الى تعزيز التعارف بين الإعلاميين العرب، وإقامة ورشات عمل مشتركة، وتبادل الخبرات، وتكامل المعارف، وتخصيص جوائز للمبدعين في الدفاع عن حقوقنا، والدفاع عن القضايا المُحقّة، وفي مقدمها القضية الفلسطينية وحق اللاجئين والنازحين بالعودة إلى أرضهم في فلسطين وسوريا.
ثامناً:
الإعلام والثقافة:لا شيء يُدمّر المجتمعات أكثر من انعدام الثقافة والأخلاق، ولا شيء يساهم في بنائها ورفعتها أكثر من الثقافة والأخلاق. فالثقافة توأم الحضارة ومرآة الشعوب. من هنا ضرورة إيلاء الإعلام التثقيفي ركناً خاصّاً وبارزاً في كل وسائل إعلامنا، عبر سياسة إعلامية تعلي شأن المحمول الثقافي لدى المتلقي وتطوّر التفاعل بين الأفراد والجماعات.
ويحسُن أن يولي إعلامنا قضايانا البيئية والصحية والعلمية والتكنولوجية والثقافية والسياحية والتربوية اهتماما دائما، فيضيء على كل ما يوسّع مدارك المواطن ويبسّط له ما قد يبدو معقّدا من مصطلحات ومفاهيم في مجالات شتى وملفات مختلفة.
تاسعاً:
الأرشيف والتشريعات:يُمثّل الأرشيف ذاكرة الشعوب وإرثها ووجدانها، لذا وجب الاهتمام بتاريخ الصحف القديمة و المؤسسات الإذاعية والتلفزيونية القائمة على كنوز من الوثائقيات والبرامج والصور والأعمال الفنية القيّمة. وكذلك تطوير التشريعات الراعية لقانونية المؤسسات والصحف والمواقع الإلكترونية وحقوق الملكيّة.
المكتبَة الوطنِيَّة اللُّبنَانِيَّة
تأسست المكتبة الوطنية اللبنانية بتاريخ 8 كانون الأول عام 1921، لِتكُون مقر إِيدَاع وحِفظ النِّتَاج الفِكرِي والتُّراث اللُبنَانِيّ المنشُور؛ ومُورَّداً ثقافِياً وعِلمِياً لِلمُهتمِّين والعامَّة.
وفي عام 1924، صدر قانون الإيداع القانوني الذي يفرض على الناشرين أن يودعوا نسختين من مطبوعاتهم بالمكتبة الوطنية. وبذلك نمت مجموعاتها من عشرين ألفا هي نواة مكتبة المؤسس فيليب دي طرازي إلى 200 ألف عام 1975، وفي عام 1935 أصبحت تابعة إلى وزارة التربية. إلا أنها تضررت جراء الحرب الأهلية اللبنانية التي نشبت منذ عام 1975، فتعرضت محتوياتها للضياع والنهب، وأغلقت تماما عام 1979 خاصة وأنها كانت على ما كان يسمى خطوط التماس بين الأطراف المتحاربة، ونقلت فيما بين 1982 و1983 إلى مبنى داخل حرم الأونيسكو في الشطر الغربي من العاصمة وظلت هناك إلى عام 1997.
ولم يبق من رصيدها في هذه الأثناء إلا حوالي 150 ألف وثيقة و3000 مخطوطة. وفي عام 1999، أرادت وزارة الثقافة اللبنانية إحياءها من جديد فوضعت مشروعا لهذا الغرض لترميم المبنى وتصنيف الكتب وفهرستها. وساعدت على تنفيذ هذا المشروع دولة قطر، وكذلك الاتحاد الأوروبي، وقد وضع الحجر الأساس لمبنى المكتبة في مقرها الجديد في مبنى كلية الحقوق في الصنائع يوم 10 أيار (مايو) 2009.
أطلقت الدولة اللبنانية مشروع إعادة النهوض بالمكتبة الوطنية كتتمة لمشروع التأهيل، وأخذت على عاتقها مَهمّة تمويله. وتتمحور مهامّ المشروع حول: فهرسة مجموعات المكتبة الوطنيّة وتصنيفها، وترميم الوثائق القديمة، وإجراء الأبحاث البيبليوغرافية لتنمية المجموعة الحاليّة وإنشاء موقع المشروع على شبكة الإنترنت.
لمحة عن سيرة الفيكونت فيليب دي طرّازي
ولد دي طرّازي في بيروت في 28 أيار سنة 1865. وهو أديب، شاعر، باحث، مؤرّخ الصحافة العربيّة، ومن أعيان السريان الكاثوليك. أصله من الموصل من أسرة آشورية. هاجر أسلافه إلى حلب وتفرّقوا في بلاد الشام ومصر.
والده نصر الله أنطون الطرّازي، أنعم عليه البابا لاون الثالث عشر ببراءة بابوية بلقب كونت تقديراً لأعماله الخيريّة، فورث فيليب هذا اللقب عن والده.
تعلّم في المدرسة البطريركيّة اللغتين العربيّة والفرنسيّة (1873-1875)، ثم انتقل إلى كليّة الآباء اليسوعيّين وحاز على الشهادة العلميّة وتعلّم اللغات اللاتينيّة واليونانيّة والإيطاليّة (1875-1884).
بعد تخرّجه، عمل بالتجارة واتّسعت ثروته. سافر إلى العديد من الدول والتقى العديد من الشخصيّات السياسيّة والثقافيّة (1899-1913). عمل خلال فترة الحرب العالميّة الأولى على مساعدة المحتاجين. سُجن بتهمة التجسُّس ضدّ السلطنة العثمانيّة خلال الحرب مدّة عشرة أيّام ثمّ أُطلق سبيله بكفالة ماليّة، إلاّ أنّه استمرّ على مدى 81 يوماً يُساق من بيروت إلى عاليه للمحاكمة حتى أُثبتت براءته. ولما احتلّ الجيش الفرنسيّ سواحل سوريا سنة 1918، شكّلت الحكومة الفرنسيّة دائرة الإعاشة وعُيّن دي طرّازي مفتّشاً عامًّا لها.
كان عضواً في العديد من اللجان، ففي عام 1919 عُيِّن مع بعض ضبّاط الجيش الفرنسيّ عضوًا في تخمين الأملاك التي احتلّتها العساكر، فدافع من موقعه عن حقوق مواطنيه ومصالحهم‏.
شكّل لجنة إعانة منكوبي الوطن (1920). عُيِّن عضوًا في أكثر من خمس عشرة جمعيّة منها جمعيّة الاتّحاد المسيحيّ التي كانت تسعى وراء استقلال لبنان الكبير. تولّى رئاسة جمعيّات عديدة، منها: رئاسة شركة القدّيس منصور دي بول (1898-1906) ثمّ جمعيّة المساعي الخيريّة السريانيّة وأخويّة العائلة المقدّسة.
إنضمّ إلى الجمعيّة الإصلاحيّة لمطالبة السلطنة العثمانيّة بالإصلاح، وقد انتدبته بعض الجمعيّات العلميّة وعيّنته عضوًا فيها، منها: الجمعيّة الألمانيّة لمعرفة أحوال البلدان الإسلاميّة في برلين والمجمع العلميّ العربيّ في دمشق والمجمع العلميّ السوريّ في بيروت ولجنة وضع الأسماء لشوارع بيروت وجمعيّة أمناء دور الكتب في فرنسا ولجنة دار كتب المسجد الأقصى في القدس.
دأب دي طرّازي على التأليف والكتابة في المجلاّت وبعض الصحف حيث صدرت له مجموعة من المؤلّفات، ونظم حوالي نيّفًا وخمسة آلاف بيت من الشعر وقد جمع أكثرها في ديوان سمّاه “نفحة الطيب” عبثت به يد الضياع، وآخر سمّاه “قرّة العين”.
كان لدى طرّازي ولع بجمع الآثار القديمة والعناية بها، فاهتمّ منذ العام 1889 بجمع الأعداد الأولى من المجلاّت والجرائد الّتي ظهرت في عدّة لغات (كالعربيّة والتركيّة والسريانيّة والعبرانيّة والأرمنيّة والفارسيّة والتتريّة والكرديّة والهنديّة والأورديّة وغيرها)، ورتّبها حسب تسلسل صدورها، وقد بلغ مجموع الصحف العربيّة نحو ألف وتسعمئة جريدة ومجلة، ثم عمد في العام 1913 إلى وضع كتابٍ أسماه “تاريخ الصحافة العربيّة” وصفه دي طرّازي بأنّه “شامل لتاريخ الصحافة العربيّة في مشارق الأرض ومغاربها” وقسّمه إلى أربعة أقسام وقدّم له بتوطئة ذات ثمانية فصول عرّف خلالها بالصحافة وآدابها وأسماء مؤرّخيها وختمه بجدول عام يضمّ أسماء الصحف بلا استثناء ورتّبها بحسب البلدان والممالك التي ظهرت فيها.
إقتنى دي طرّازي مجموعةً احتوت على خطوط مشاهير الرجال والنساء في الشرق من سلاطين وملوك ووزراء وأمراء وعلماء وشعراء وأئمّة الدين، كما اقتنى مجموعة مهمّة من الطوابع البريديّة.
ساهم دي طرّازي بنشر الثقافة، فأهدى مكتبة دير الشرفة للسريان الكاثوليك (لبنان) ونقابة الصحافة في بيروت مجموعةً كبيرةً من الكتب المخطوطة والمطبوعة التي كانت قد أهدته إيّاها الجمعيّات الثقافيّة والمجامع العلميّة في الخارج. كما أهدى العديد من الكتب إلى المكتبة الخديويّة في القاهرة، والمكتبة الامبراطوريّة في فيينا، والمكتبة الوطنيّة في لندن، والمكتبة الفاتيكانيّة في روما، والمكتبة الأهليّة في برلين، ومكتبة همبرغ في ألمانيا، ومكتبة مدرسة اللغات الشرقيّة في باريس، ومكتبة الجامع الأقصى في القدس، ومكتبة إكليريكيّة الآباء البندكتيّين في جبل الزيتون، ودير مار بهنام في الموصل. حاز على أوسمة رفيعة تزيد عن العشرين وسامًا.
تأسيس دار الكتب الكبرى:
تنبّه دي طرّازي إلى أنّ بيروت التي تُعتبر حاضرة العلم، تفتقر إلى مكتبة عامّة يلجأ إليها روّاد المعارف للبحث والمطالعة، فعرض فكرة انشاء مكتبة عامّة على أرباب الحكومة فوافقوا عليها وكلّفوه بتنفيذ المشروع، فبذل جهودًا كبيرة لتأسيسها، وخصّص الكثير من ماله ووقته لإنجازها. فكان أن أنشأ دار الكتب في بيروت التي سُمّيت “دار الكتب الكبرى”، فنقل مكتبته الخاصّة الّتي ضمّت نفائس الكتب المخطوطة والمطبوعة ومجموعة كبيرة من المجلاّت والجرائد إلى الدار، وسافر إلى أوروبا على نفقته الخاصّة، وجمع آلاف الكتب من معاهد الأدب والمؤسّسات الثقافيّة والمجامع العلميّة، كما جمع العديد من التحف الثمينة لتزيد المكتبة رونقًا وزينةً، إضافةً إلى اللوحات الزيتيّة الّتي تمثّل مشاهير علماء الوطن تخليدًا لذكراهم. وفي 25 تمّوز 1922 احتفل رسميًّا بتدشين الدار في مبنى “الدياكوتيس” في وسط بيروت برئاسة الجنرال غورو، وعُيِّن أمينًا عامًّا لها حتّى عام 1939.
انتقلت المكتبة إلى بناية المدرسة البروسيوية المعروفة بمدرسة “الدياكونيس” في وسط بيروت، بعدما ضاقت دار دي طرّازي بالمقتنيات، وأطلق عليها اسم “دار الكتب الكبرى” واختار ثمانية أدباء لمساعدته.
ظلّ يحاول جاهدًا مفاوضة السلطات لتعترف بها وتضمّها إلى سائر دوائرها الرسميّة، حتّى تمّ له ذلك في 8 كانون الأول 1921 فأصبحت مؤسّسةً رسميّةً وباتت منوطة بمديريّة المعارف العامّة.
متحف نابو (نابو – اله الكتابة والحكمة)
يقع متحف نابو في منطقة رأس الشقعة في شمال لبنان، تم تسمية المتحف بهذا الاسم نسبةً إلى إله الكتابة والحكمة نابو الذي عاش في بلاد ما بين النهرين و تحديداً في رأس الشقعة ، يتميز المتحف باحتوائه على مجموعة فريدة من القطع الفنية التي تم أخذها من العصر البرونزي، الحديدي، بالإضافة إلى العصور الرومانية، اليونانية والبيزنطية، ومن ضمن القطع الفنية الموجودة في المتحف هي المخطوطات والقطع الإثنوغرافيا، بالإضافة إلى وجود تشكيلة متنوعة من نماذج الأعمال الفنية المعاصرة العائدة لأهم الفنانين، مثل أمين باشا، هيلين الخال. محمود العبيدي والعديد من غيرهم.
في شهر جزيران 2023 افتتح وزيرا الثقافة والإعلام في حكومة تصريف الاعمال القاضي محمد وسام المرتضى والمهندس زياد المكاري، معرض “بدايات الصحافة العربية” ،الذي يضم 400 صحيفة من مجموعة الباحث بدري الحاج صاحب فكرة المعرض، ومن مجموعة نابو، وأخرى خاصة بأصدقاء المتحف، يتيح لمحترفي الثقافة إعادة
افتتح وزيرا الثقافة والإعلام في حكومة تصريف الاعمال القاضي محمد وسام المرتضى والمهندس زياد المكاري، معرض “بدايات الصحافة العربية” في متحف نابو في الهري، في حضور نقيب الصحافة عوني الكعكي، المدير العام لوزارة الاعلام الدكتور حسان فلحه، ممثل نقابة المحررين غسان ريفي، مؤسس متحف نابو جواد عدره وشخصيات وفاعليات وحشد من المهتمين.
وشدد الوزيران المرتضى والمكاري على أهمية دور الصحافة الللبنانية بشكل خاص في نشر الوعي والمحافظة على الارث الثقافي.
وقال الوزير المرتضى
“دخلت الصحافة إلى العالم العربي مع دخول نابوليون بونابرت إلى مصر في السنتين الأخيرتين من القرن الثامن عشر، ثم راح انتشارها يتوسع شيئا فشيئا إلى الجزائر ثم بيروت فالآستانة فسائر المدن العربية. وكان الفرنسيون ومن بعدهم المرسلون الأميركيون طلائع هذا الفن الغربي الآتي حديثا إلى الشرق. لكن انطلاقتها الفعلية كانت من لبنان في المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر مع “حديقة الأخبار” لخليل الخوري عام 1858، ثم “نفير سوريا” للمعلم بطرس البستاني سنة 1860، وصولا في نهايات ذاك القرن إلى مجلة “المشرق” للآباء اليسوعيين عام 1899″.
أضاف: “لم يقصر المهاجرون اللبنانيون في مواكبة العمل الصحافي فأنشأوا صحفا وأصدروا مجلات ناطقة بالعربية في كل من أوروبا ومصر وأميركا، واستمرت هذه الصناعة على رواج مطرد طوال القرن العشرين من خلال الصحف المحلية والأجنبية التي تعرفونها. ويجمع الدارسون على أن انتشار الصحافة كان واحدا من أهم عوامل النهضة العربية. وفي هذا الإطار كتب بطرس البستاني: “الصحافة هي التي قاومت الاستبداد والمستبدين، وآزرت الحرية والأحرار وربطت الشرق بالغرب، وأطلعت المشارقة على حضارة الأوروبيين وعلومهم، وفنونهم واختراعاتهم، وسياساتهم وأحوالهم، فاستفاد منها الجاهل والعالم، وشملت بفضلها الخاصة والعامة، وكانت الرقيب الساهر على الحكام والمسيطرين، تنتقد أعمالهم وتنبههم على خطئهم، وتدلهم على طرق الإصلاح والفلاح، وألانت أساليب الكتابة وزفت ألفاظا ومصطلحات جديدة”.
وأردف: “أحببت في بداية كلمتي أن أمر مرورا سريعا على تاريخ نشأة الصحافة في بلادنا وأن ألحظ تأثيرها على تكوين المجتمعات والسلطات عندنا، مسترجعا زمن البدايات الذي اجتمعنا اليوم ههنا في هذا المعلم الثقافي، لاستعادته من جديد، صورا ووثائق وأوراقا ذات جلالة. ولقد كان بودي أن أقيم مقارنة بسيطة بين ما كانت الصحافة عليه وما آلت إليه، من أحوال ازدهار أو انكفاء، ومن قوة تطوير أو ركود، ومن مرجعية صدق أو مصدر فبركات، وأن أقابل بين أدب الصحافة بالأمس، أساليب ومحتويات، وبين لغتها اليوم، لكي تكون العودة إلى الماضي مفيدة في عملية نقد الحاضر سعيا إلى تطويره والى بلوغه الشفاء مما يعتريه”.
واستطرد: “لكن ذلك غير متاح في خطاب قصير. يكفي أن أشير إلى أن الواجب الوطني يدعونا دائما إلى مثل هذه المقارنات والمقابلات، أو بالأحرى إلى إجراء عمليات نقد مستدامة لكل ما هو بين أيدينا من نتاج الأمس واليوم، من الموروث التليد والمصنوع المستحدث الطارف، نقدا يطاول أنفسنا قبل الآخرين، لأن التعافي والبناء لا يكون إلا بالنقد العلمي الرصين، تحصينا للذات الخاصة والعامة وتطويرا لهما معا. وللمتاحف، ومنها هذا المعلم الذي يستضيفنا اليوم، دور رائد في هذا المجال، لأن النظر في مقتنيات الماضي المعروضة فيها، يحفز على مواجهة مشكلات الحاضر بصلابة وثبات مستمدين من صلابة الآثار وثباتها على مر العصور”.
كما نوه بجهور كل من عمل لإقامة هذا المعرض، قائلا: “الآن إذ نحن في رفقة تراث يقارب عمره المئتين من السنين، ينبغي لنا أن نثمن عاليا جهود من تعبوا وطافوا العالم وجمعوا مواد هذا المعرض، ليقدموا لنا صورة أخرى عن لبنان موضوعة في إطار ثقافي حي، كي نستعيض بها عن واقع مرير. ففي ظل ما يحيط بالوطن من استعصاء على مختلف المستويات في الميادين كافة، تبقى الثقافة وحدها المفتاح الذي يشرع جميع الأبواب المغلقة، وتبقى وحدها ملاذا للوطن والمواطنين: أما للوطن فلأنها هويته الحقيقية الثابتة، وأما للمواطنين فلأنها أملهم الحقيقي الثابت”.
وختم المرتضى موجها “الشكر لمتحف نابو والقيمين عليه، وألف شكر للأخ العزيز الدكتور بدر الحاج الجندي الذي يسعى الى أن يكون مجهولا من خلال تعمده البقاء بعيدا عن الأضواء لتواضع منه وايضا لأنه عقد العزم على خدمة الوعي في هذا الوطن وحفظ موروثه الثقافي ولكن مستمسكا بمبدأ “لا أسألكم عليه أجرا”، دكتور بدر نحن نقدرك كثيرا، ونستهيب علمك، ونستلهم من التزامك بقضايا امتنا، ومن وضوح رؤيتك التي جعلتك مدركا لما يتهدد تاريخنا وموروثنا وحاضرنا ومستقبلنا عنيت به كيان الشر المزروع الى الجنوب ، أطال الله بعمرك ومدك بوافر الصحة والعافية. عاشت الثقافة وعاشت الصحافة المولد الأساسي للوعي المجتمعي السليم”.
الوزير المكاري
من جهته قال المكاري: “تحت ناظري نابو إله الحكمة والكتابة، وحارس إرث المشرق في الثقافة والصحافة والفن، نفتتح اليوم معرض “بدايات الصحافة العربية”، الذي يقدم نماذج من القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، لعلنا نتذكر ونذكر ونحافظ على ما تبقى”.
أضاف: “سعيد بوجودي هنا معكم وبينكم، تحت سقف هذا المتحف الصغير بحجمه، والكبير بأدواره وأصحابه. جواد عدرة، بدر الحاج وفداء جديد، مدرسة في حفظ التاريخ وصناعات الماضي، حرصا على صناعة الحاضر والمستقبل. 400 صحيفة من مجموعة الباحث بدري الحاج صاحب فكرة المعرض، ومن مجموعة نابو، وأخرى خاصة بأصدقاء المتحف، يعيد محترفو المحتوى الثقافي نشرها من اليوم ولغاية 16 أيلول. في المختصر، هنا كنوز من عصر ذهبي لمجيدي تقييم الوزنات، وهنا بيروت!”.
وتابع: “سجل تاريخي سجل في سجل “بيروت عاصمة الإعلام العربي للعام 2023″، لصحف أثرت اللغة العربية، ونشرت الوعي الوطني والقومي، وساهمت في نهضة الأمة الفكرية، بعدما جازفت إلى حد الإبداع والتميز والتألق. وهنا أذكر أن أول صحيفة باللغة العربية صدرت في بيروت عام 1858، وكان اسمها “حديقة الأخبار” لمؤسسها خليل الخوري، وأول مجلة عربية كانت لبنانية بامتياز، حملت اسم “الفتاة” وأسستها اللبنانية هند نوفل عام 1892 في مصر، التي تقاسمنا واياها العدد الأكبر والأهم من الصحف والإصدارات العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. “بيروت عاصمة الإعلام العربي” بكل فخر واستحقاق. هي ليست عاصمة في موسم عابر، وإنما عاصمة في كل المواسم. هي بؤرة دائمة للثورة، وبقعة دائمة للحرية. رسالتها عميقة الغور وفي جوهر كيانها. هي مدينة مختلفة، وجيوشها الفكرية جعلتها كذلك. لا الاحتلالات استطاعت تدجينها، ولا الحرب تمكنت من اقتلاعها”.
وختم المكاري: “نعيش في كنف الانهيار المالي منذ أربع سنوات، وشعبنا مصلوب على خشبة قيادات متخشبة، منبهرة بالتعطيل ومنتصرة بالانهيار، تبتدع سياسة تجميل البشاعات وتصر على التقاطع الدفين وفق قصة عنزة ولو طارت، فيما البلد طار. لبنانهم هذا لا نريده، نريد لبناننا، لبنان الأمل لا الألم. لبنان الثقافة لا الجهل. لبنان الصحافة والثقافة والفن والإبداع، وكل ما هو جميل ومبدع مشرق”.
عدره
وكانت كلمة ل عدره رحب فيها بالحضور وقال: “معرضنا اليوم عن بدايات الصحافة العربية، منذ نشوئها وانطلاقها في منتصف القرن التاسع عشر وحتى الامس القريب، مما يتيح لكم الارتحال مع نسخ من اعداد الجرائد والمجلات زمانا ومكانا”.
أضاف: “لقد رافقت بدايات الصحافة العربية وجوها تركت اثرها العميق في لغتنا وفكرنا ونهضتنا، وجوه لم يغيب الموت اسماءها، هي وجوه صانعي عصر التنوير. ولعصر التنوير، بدءا من اواسط القرن التاسع عشر، رواد لا تعرفهم الاجيال الجديدة. رواد صنعوا التاريخ الثقافي، الفكري، اللغوي، الفلسفي والعلمي لهذه المنطقة، طوروا اللغة العربية وركزوا على اهمية الفلسفة والعلوم والادب والشعر ودعوا الى نبذ الطائفية ومقاومة الاستبداد والاحتلال. هؤلاء كانوا الثوار الحقيقيين، ونحن بحاجة للاستقاء منهم لبدء شرارة ثورة ثقافية جديدة. وكي لا ننسى، البداية مع ثلة منهم، بمنحوتات لوجوههم، تجدونها اليوم في حديقة متحف نابو من جهة البحر”.
كذلك شرح الدكتور بدر الحاج مراحل إنجاز المعرض، ثم كانت جولة داخله وفي الحديقة.
الصحافة الورقية… إلى متحف نابو
مع مرحلة التحول الرقمي و تقدّم مواقع التواصل الاجتماعي، وبروز منصّات الإعلام البديل، بدأت أزمة الصحافة الورقية تتصاعد في أنحاء العالم، مع تزايد الرغبة في “التصفح والمشاهدة” بدل القراءة، في مختلف أنحاء العالم.
معرض “بدايات الصحافة العربية”، في متحف نابو في منطقة الهري، يقدم نماذج من الصحف العربية تعود لفترة ما بين القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، ليشكّل سجلّاً تاريخياً لبدايات الصحافة العربية في المشرق وشمال إفريقيا والمهجر.
يضم متحف نابو، 400 صحيفة من مجموعة الباحث بدر الحاج (أحد مؤسّسي متحف نابو) ومجموعات خاصّة أخرى. وكمّ هائل من الصحف الموجودة، فتفرح بها وبإنجازٍ نوعيّ جمعَهَا كلّها في مكان واحد أرشيف ذهبيّ وغصّة خسارته في آن، وهو ما يمنح المعرض بعداً عاطفياً سيفسّره كلّ شخص انطلاقاً من تجربته الشخصية مع الصحف.
الرسالة من المعرض، كما يراها مؤسّس متحف نابو جواد عدرا، هي “إحياء روح الثقافة والتعمّق بها، وتسليط الضوء على شخصيات أسّست لإرث ومجد عظيمَين”. وهو يدعو “لاستذكار جهود كبيرة أطلقت ثورة ثقافية عابرة للزمان والمكان، والاستلهام من مسيرتها لخدمة لبنان والمنطقة والأجيال المقبلة… فبيروت عاصمة الإعلام العربي لعام 2023، وكان من المهمّ لدينا أن يشمل المعرض كلّ الدول العربية”.
وما يميّز المعرض، هو أنّه يسمح لنا برؤية التاريخ بالصور والوقائع، وشموليّته التي تجعل منه المعرض الأوّل من نوعه في المنطقة، إذ يضمّ نماذج فريدة ومحدودة من جميع الدول العربية ومن صحافة المهجر، ويعيد إلى الذاكرة شخصيات (ناشرين) ناضلت وتعبت لتنتشل بلادها من الظلمة إلى النور.
بدأت الحكاية (حكاية الصحافة العربية) في مصر في عام 1799 مع صحيفة “الحوادث اليومية”، وهي أوّل صحيفة صدرت في القاهرة، وأنشأها نابليون الأول عندما كان قائداً للجيوش الفرنسية في وادي النيل.
وانتظرت المنطقة 29 عاماً حتّى 1828 لتصدر صحيفة “الوقائع المصرية” في عهد خديوي مصر محمد علي. كانت تصدر باللغتين العثمانية والعربية في البداية، ثمّ تحوّلت إلى العربية في وقت لاحق.
لاحقاً أصدر الشاعر السوري رزق الله حسون أوّل جريدة باللغة العربية في 1855، وقد حملت اسم “مرآة الأحوال”. لكنّها توقّفت عن الصدور بسبب نقدها الشديد للسياسة العثمانية.
أمّا أوّل صحيفة باللغة العربية صدرت في بيروت فكانت “حديقة الأخبار” التي انطلقت في عام 1858 على يد مؤسّسها خليل الخوري، وكانت تنطق باسم الوالي التركي.
يظهِر المعرض كثافة الإصدارات في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في مصر ولبنان وفلسطين والعراق والحجاز، ويعرض مختارات من الصحافة المهجريّة التي كانت أيضاً غزيرة في أوروبا وأميركا الشمالية والجنوبية، ومختارات نُشرت في الصين والهند وتشيلي وماليزيا وإندونيسيا وغيرها من الدول، حيث ترك ناشرون عرباً بصماتهم.
خلال الرحلة في معرض “بدايات الصحافة العربية” نمرّ بـ”الأخبار” و”النهار” و”العروة الوثقى” و”البيان” و”الزهوة” و”الحياة” و”لسان الحال” و”الجنّة” و”الأهرام” و”الحجاز” و”الجامعة” و”الوفاق” و”السائح” و”مرآة الدنيا” و”الجريدة” و”النصر” و”الشرق العربي” و”الأرجنتين” و”سوريا المتحدة” و”حضارة السودان” و”كوكب إفريقيه” و”العصر الجديد” و”القدس” و”الشعب” و”المغرب”… وغيرها الكثير الكثير من أسماء الصحف والدوريّات والمجلّات التي تنوّعت بين علمية وأدبية وسياسية وإعلانية وفنّية… والتي استغرق جمعها كلها في مكان واحد ما يقارب 40 عاماً.
احذروا الطبل فهو بالمرصاد
يتنقّل العابر بين الأسماء والعناوين، فيجد بعضها مضحكاً وبعضها الآخر مبكياً. إذ كانت الصحف والمجلّات تعبّر عن آراءٍ سياسية متضاربة، بعضها عثماني الولاء، وبعضها يؤيّد السياسة البريطانية أو الفرنسية، أو يدعو إلى التحرّر والتغيير والاستقلال ومحاربة العثمانيين. إذاً هي جولة بين أزمات حكم وأطماع متشابهة ما زالت مستمرّة حتى يومنا هذا ولو بأشكال مختلفة.
على سبيل المثال لا الحصر جريدة “الشعب” تعرّف عن نفسها بأنّها “جريدة جامعة أُنشئت لخدمة الشعب الشوفيّ”. في عددها الصادر في عين زحلتا في 5 كانون الأول سنة 1912 على صفحتها الأولى مقال بعنوان: “هل تحتلّ فرنسا سوريا.. وهل يشمل الاحتلال لبنان؟”. وهي “نبوءة” قبل بدء الحرب العالمية.
في “العصا لمن عصى”، وتعرّف عن نفسها بأنّها “جريدة هزلية جدّية عربية تركية”، في عددها الصادر في 29 آب 1912 نجد مقالاً عن الانتخابات يوبّخ الشعب على خياراته ويدعوه إلى اختيار من يمثّله بشكل أفضل: “إنّ أعظم ذنب يرتكبه الشعب هو أن يخدَع هذه المرّة أيضاً ويهب قوّته للأغنياء… ومتى قضوا منه وطرهم وصرفوا قوّته فيما يعود عليهم وحدهم بالنفع والفائدة، قلبوا له ظهر المجنّ وتعالوا عن الاحتكاك به، والنظر بما فيه خيره وما عهدنا بالانتخابات الماضية ببعيد”.
كذلك تُظهِر مقتنيات المعرض هامش الحرّية الكبير في ذلك الوقت وحسّ الانتقاد الساخر الذي أدّى إلى إصدار صحف هزلية ساخرة نفتقدها اليوم، ومن أبرزها نذكر: العصا لمن عصى، الحمارة، المسامير، الدبّوس، السعدان، العفريت، السفور، حط بالخرج، جحا، الكشكول، والطبل التي كان شعارها: احذروا الطبل فهو بالمرصاد، وغيرها….
روّاد النهضة العربيّة
في زاوية أخرى من المعرض تستوقفك صور لروّاد النهضة العربية ومجموعة مميّزة من مؤسّسي الصحف الرؤيويّين الذين كانوا وراء النهضة العربية الحديثة من خليل الخوري إلى الدكتور خليل سعادة، ومن بطرس البستاني إلى ناصيف اليازجي وعبد الرحمن الكواكبي ورفاعة الطهطاوي وداوود باشا وسواهم.
تتوقّف أيضاً عند صحيفة “السائح” التي أصدرت عدداً مميّزاً تحت عنوان “السائح الممتاز” في نيويورك، وكتب فيها كتّاب عظماء مثل ميخائيل نعيمة، جبران خليل جبران، إيليا أبو ماضي ونسيب عريضة.. وعند صحيفة “المفيد” (جريدة وطنية علمية سياسية) التي أصدرها عبد الغني العريسي من بيروت في شباط 1909، للتعبير عن إرادة التغيير والتحرّر على الرغم من الرقابة العثمانية وقتذاك، وأوقفتها السلطات عدّة مرات إلى أن أصدر جمال باشا، حاكم سوريا في الحرب العالمية الأولى، حكماً بإعدام العريسي.
من جهة أخرى، لعبت النساء دوراً رياديّاً في بدايات الصحافة العربية، فكانت الشاعرة السورية مريانا مراش أوّل امرأة تكتب في الصحافة العربية، فنرى مقالاتها في “الجنان” و”لسان الحال” في بيروت. ونرى هند نوفل بين روّاد النهضة، وهي اللبنانية التي أسّست أوّل مجلة نسائية في العالم العربي، وحملت عنوان “الفتاة” في 1892. ومن صحف المهجر “المارونية الفتاة” التي صدرت في الصين عام 1908، وكان شعارها “مجد لبنان أعطي لها”، أي للفتاة المارونية. وكانت هذه الصحيفة من دعاة تحرّر المرأة.
بيروت: ازدهرت في قرن النكبات… وانفجرت بعده
تخرج من متحف نابو مثقلاً بالتاريخ: 225 عاماً على أول صحيفة عربية، مئات المنشورات واكبت الأحداث وأثّرت بها، شخصيات صنعت جزءاً من التاريخ وكتبت الجزء الآخر، صحف أطفأتها الحروب وصحف أطفأها القمع، وآخرها أطفأتها الأزمات المادّية وموجات التكنولوجيا، وصحف ما زالت تحارب ورقياً أو إلكترونياً من أجل الإرث نفسه… فحتى لو انتهى الورق، لن يجفّ الحبر. وكلماتنا اليوم ربّما ستراها الأجيال المقبلة في متحف للصحافة الإلكترونية بعد مئات السنين… فمن يعلم؟
معرض الصحافة الزغرتاوية
بتاريخ 25 آب 2023 افتتح وزير الإعلام في حكومة تصريف الأعمال المهندس “زياد المكاري” معرض “110 أعوام على الصحافة الزغرتاوية” في اهدن الذي نظمته “جمعية الشبيبة الإهدنية”، بحضور رئيس الجمعية “روي عريجي” وشخصيات سياسية وإعلامية، تضمن المعرض عرضاً للصحف التي صدرت في مطلع القرن الماضي وتحديداً في العام 1910 باسم “جريدة إهدن”، تبعها عدد من الصحف من بينها “صدى الشمال”، “الدفاع”، “الميدان”، “أبعاد” وغيرها العديد من الصحف. تخلله تكريم للوزير المكاري الذي كان وما زال مدافعاً عن حرية الإعلام اللبناني وقدسية الكلمة الحرة.
وفي كلمة له قال المكاري:
“هذه المنطقة هي جزء لا يتجزأ من لبنان ومن صحافة لبنان، ومن إرث لبنان، وآمل أن يشكل هذا المعرض نافذة جديدة لشباب وشابات زغرتا وإهدن، والشمال، وبالتأكيد كل لبنان. وهذا الإرث يجب المحافظة عليه وتطويره”.
وتابع: “عندما أُعلنت بيروت “عاصمة الإعلام العربي” لم يأت هذا الإعلان من فراغ، أو منّةً من أحد، بل جاء استناداً إلى إرثنا الكبير، نحن من بنى الصحافة الحرة والإعلام الحر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »